الوصف
وأكثر نظرية ذاع صيتها هي نظرية التطور؛ التي قام بنشرها العالم تشارلز داروِن عام (١٨٥٩) في كتاب بعنوان: أصل الأنواع؛ وذلك بعد أن لاحظ التشابه الكبير بين المخلوقات، مما دعاه لطرح النظرية.
مقالة
إن البحث في أصل الحياة يدخل ضمن اهتمامات العديد من البشر، لا سيما علماء البيولوجي؛ ومن ثمّ نشأت العديد من النظريات لتفسير ظهور الحياة منذ قديم الزمن،
مثل: نظرية التولد التلقائي أو التخلق اللاحيوي Abiogenesis، نظرية فتحة البحر العميق، فرضية عالم الحمض النووي الريبوزي، نظرية البانسبيرميا أو التبذر الشامل Panspermia، وغيرها من الفرضيات.
وأكثر نظرية ذاع صيتها هي نظرية التطور؛ التي قام بنشرها العالم تشارلز داروِن عام (١٨٥٩) في كتاب بعنوان: أصل الأنواع؛ وذلك بعد أن لاحظ التشابه الكبير بين المخلوقات، مما دعاه لطرح النظرية.
وفكرتها أن الأنواع نشأت من سلف واحد مشترك؛ من خلال التوريث مع التعديل في عملية يقودها الانتخاب الطبيعي.
والسلف المشترك يُقصد به وجود أصل واحد فقط لجميع الأحياء على سطح الأرض ؛ حيث نشأت بالتدريج من خلية واحدة، كما افترض داروِن في كتابه أصل الأنواع قائلًا: ” لذلك يجب أن أستنتج من القياس أن كل الكائنات العضوية التي عاشت على هذه الأرض قد انحدرت من شكل بدائي واحد نفخت فيه الحياة أولاً”.
وبفعل المصادفة وتوافر الشروط الفيزيائية من درجة حرارة، ورطوبة، وهواء؛ تكاثرت هذه الخلايا وتولّد عنها سلسلة من المخلوقات بدءاً من النباتات، وانتهاءً بالإنسان.
فما هي أوجه الإشكال مع فكرة هذه النظرية؟
أوضح د. سلطان العميري“أن مصطلح التطور يدل على وقوع تغير في مدة زمنية، وهذا التغير قد يحدث في النوع الواحد، ويسمى التطور الصغرويMicroevolution، مثل التطورات الواقعة في الكلاب، كأحجامها، وأطوالها، وأشكالها…إلخ، أو حتى في وجود سلف مشترك بينها وبين الذئاب مثلًا، وهذا التطور لا إشكال فيه، ويمكن ملاحظته ورصده.
لكن المشكلة الحقيقية واقعة في التطور الكبروي Macroevolution، وهو التطور الواقع بين الأنواع الذي يحاول الربط بين الأسماك والبرمائيات، والبرمائيات والزواحف، والزواحف والثديات والطيور، حتى ينتهي الأمر بالإنسان، كما هو الحال في نظرية التطور، فالكل بينه وبين الآخر نسب، فمثلًا: يوجد سلف مشترك بين الإنسان والذبابة!
ووقعت تغييرات طفيفة في ملايين السنين أدت لهذه التطورات الضخمة!
لكن ما إمكانية وقوع مثل هذه التطورات؟
وما طبيعة التقنيات التي يمكن أن تقفز بجنس من الكائنات الحية إلى الجنس التالي؟
إذن يوجد إشكال في حقيقة وجود هذه السلسلة غير المنقطعة التي تنتظم فيها جميع الكائنات الحية”.
وقد يُسأل عن تفسير التشابه الكبير بين خلايا المخلوقات، وعلى سبيل المثال هناك تشابه في الخريطة الجينية بين القرد والإنسان يبلغ أكثر من ٩٠%؟، والجواب ببساطة أن هذا التعقيد والتشابه في عالم المخلوقات ما هو إلا دليل قوي على أن الخالق واحد وهو الله سبحانه وتعالى، يقول تعالى في سورة الرعد: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ١٦}.
لكن علماء التطور بدلًا من أن يقودهم التشابه بين الكائنات إلى الاستنتاج المباشر بأن من أوجدها لابد وأن يكون واحدًا؛ فضّلوا الدخول في متاهة بزعمهم أن الحياة نشأت بمجرد المصادفة، وأن تطور الكائنات من كائنات وحيدة الخلية إلى كائنات مركبة كان أساسه أن البقاء للأصلح، وأن الكائنات الأقوى هي التي سادت وتسود باستمرار، وفاتهم أن الكائنات الدقيقة وحتى الفيروسات والبكتيريا والفطريات…. إلخ كانت ومازالت تعيش حولنا لم تنقرض، رغم أنها ضعيفة بسيطة التركيب.
كتب عالم الطبيعة البيولوجية الأميركي Morowitz عام ١٩٧٩م: “إنه أمرٌ مخزٍ للإنسان أن يسرح بذهنه ليتصور أنه من سلالة قرد عريان غير عاقل”، ويعلق مورفيتز: “أنه من المؤلم أن يظل الإنسان – الذي أقام الحضارة وأضاف العديد من المبتكرات والتكنولوجيا ـ تحت وطأة أنه من سلالة قرد أبله… إن الإنسان المادي والذي لم يسعده عالمه المادي في حاجة الآن إلى أن يعود ويقرن عالم الروح بالمادة ليصبح إنسانًا غير حيوان”.
أما الملحد اللاأدري ديفيد برلنسكي (David Berlinski) يعلق قائلًا: “تخيل أنك أردت أن تجعل من البقرة كائنًا صالحًا للعيش في الماء، كم عدد التغييرات التي يجب أن تحدثها في تلك البقرة من أجل أن تكون كائنًا مائيًا؟، ستحتاج إلى إحداث تغييرات كثيرة جدًا في الجهاز التنفسي والهضمي، وفي الجلد … إلخ، لنفترض أن عدد التغييرات التي نحتاج لإحداثها ليست كثيرة؛ بل مائة تغيير فقط يمكن أن تشكل المسافة الفاصلة بين ذلك الحيوان الأرضي (البقرة) والحيوان البحري (الحوت)، إن الأمر أشبه بتحويل سيارة إلى غواصة، عدد التغييرات المطلوبة تكشف عن ضرورة وجود مائة حلقة بينية بين الطرفين، بمعنى آخر ستكون عندنا بقرة، ثم بقرة محسنة بتغيير واحد، ثم بقرة محسنة بدرجتين وهكذا، حتى نصل إلى النسخة النهائية من البقرة، والتي تحولت بفعل تلك التغييرات جميعًا إلى حيوان بحري، المشكلة أن السجل الأحفوري لا يساعد كثيرًا على تغطية هذا الكم الكبير من الحلقات البينية، وهذا ما يفرض مشكلة حقيقية مع الداروينية”.
فالمشكلة الأساسية في إثبات صحة النظرية تكمن في سجل الحفريات أو المتحجرات، وهي آثار الكائنات الحية المحفوظة في التكوينات الجغرافية في الأرض، إذ لا يمكن الاعتماد على العثور على بعض الحلقات البينية؛ لأن بقية الحلقات البينية مفقودة وهي الأكثر، فالسجل الأحفوري هو عبارة عن صور متتابعة محفوظة لعملية التطور البطيء المتدرج، والمشكلة أن المحفوظ من تلك الصور أقل بكثير من الصور غير المحفوظة؛ فالأصل هو الحلقات المفقودة وليس العكس.
حتى أن داروِن نفسه في كتابه أصل الأنواع في الفصل السادس الذي عَنونه بصعوبة النظرية، اعترف بمشكلة الغياب التام للحفريات البينية بين الأنواع، فيقول في حيرة: ” إذا كانت الأنواع قد انحدرت من أنواع أخرى عن طريق التسلسل الدقيق، فلماذا لا نرى في كل مكان أعدادًا لا حصر لها من الأشكال الانتقالية؟ … لماذا إذن لا نعثر عليها مطمورة بأعداد لا تعد ولا تحصى في قشرة الأرض؟ لماذا لا نجد الآن في المنطقة المتوسطة، التي تتسم بظروف حياتية متوسطة، أنواعًا متوسطة تربط بصفة دقيقة الأشكال البدائية بالأشكال المتقدمة؟ … لقد حيرتني هذه الصعوبة منذ فترة طويلة من الوقت”.
وهناك اعتراضات أخرى على تلك النظرية نذكر بعضها سريعًا، مثل:
- أن النظرية بُنيت منذ بدايتها على أمرين، هما: الأدلة الافتراضية، وذاك ما اعترف به داروِن، والأمر الثاني من الأدلة الخاطئة، مثل: توريث الصفات الجسدية المكتسبة وغيرها.
- مغالطة الاستدلال الدائري، أي الاستدلال بما يحاول استنتاجه، بمعنى عكس وضع الدليل والنتيجة، فالدليل في كل النظريات العلمية هو الذي يقود إلى النتيجة، لكن في نظرية التطور تم وضع النتيجة أولًا كنظرية مفروغ منها ثم طفقوا يبحثون عن الأدلة عليها، بدءًا من الأدلة المزعومة في الحفريات،ووصولًا إلى الأدلة التي يستغل فيها اليوم علم الجينوم، وتم أيضًا استغلال الأعضاء ووظيفتها لصالح التفسير التطوري العشوائي، كما حصل في القرن التاسع عشر عندما وضع أحد علماء الداروينية قائمة فيها حوالي ٨٦ عضوًا ضامرًا أو أثريًا كدليل على صحة التطور وهو يجهل وظيفتهم في الكائن الحي، ثم مع توالي الاكتشافات العلمية والتشريحية لم يتبقَ من هذه القائمة عضو واحد ليس له فائدة، بعكس ما افترض مؤيدو نظرية التطور أنها من بقايا التطور، وأنه ليس لها فائدة في جسم الإنسان، وكان من تلك القائمة الغدد الصماء قبل معرفة الهرمونات…. إلخ مما يعول عليه لجعل النتيجة أولًا كحقيقة مفروغ منها ثم تفسير أي شيء على أنه تطور
فاتباع هذا الأسلوب لا يصح لإثبات صحة النظريات؛ بل العكس هو الصحيح، أي الدليل ثم النتيجة.
- مشكلة طول المدة الزمنية لوقوع هذا التطور، ومدى كفاية ما لدينا من زمن لوقوعه؛ فالعمر الجيولوجي للأرض هو حوالي ٤ بليون عام، وعمر الحياة على الأرض قُدر بحوالي١.٥ بليون عام، وهذا لا يتيح الوقت اللازم للتطور التلقائي؛ فعلماء التطور قد حسبوا أن تطور الحصان من صورته القزمية إلى حجم الحصان الحالي قد احتاج زمناً لا يقل عن ١٠٠ مليون سنة؛ وهذا معناه أن عمر الحياة على الأرض لا تسعف تفسير التطور التلقائي إلى ما يسمى بالكائنات الراقية من النباتات والحيوانات، فضلًا عن عدم توفر الوقت اللازم لتفسير تطور الإنسان من الكائنات غير العاقلة.
- عجز النظرية عن تفسير العديد من الظواهر المعقدة؛ كظهور الإدراك والغرائز وغيرها.
- إشكالية الانفجار الكامبري؛ وهي حقبة زمنية ظهرت فيها مجموعة من الأنواع المعقدة فجأة، وهو اعتراض مشهور تم تداوله بدءًا من داروِن نفسه ومن تلاه من التطوريين.
ولم يتم الاعتراض من قِبَل العلماء التجريبيين وعلماء الرياضيات فقط؛ بل رفض رجال الدين اليهودي والمسيحي في عصر داروِن فكرة أن جميع المخلوقات تولدت من بعضها بفعل التطور الطبيعي بمرور ملايين السنين؛ لأنها تناقض تعاليم الإنجيل والتوراة.
ولكن بافتراض عدم وجود اعتراضات؛ بل وبافتراض أنه قد ثبت صحة النظرية وتحققها، هل يوجد تلازم بين الإيمان بنظرية التطور ونفي وجود الخالق سبحانه وتعالى؟
سواء ثبت صحتها أو بطلانها لا نرى أي صلة لها بإنكار وجود الله سبحانه وتعالى؛ بل الواقع يفاجئنا بأن هناك من يؤمن بوجود الله تعالى ويؤمن في ذات الوقت بنظرية التطور، حتى مؤسس النظرية بنفسه حين أسسها كان مؤمنًا بوجود الله، ولم تكن نظريته هذه سببًا لإلحاده؛ بل أنكر وجود الله لاحقًا بعد وفاة أحد بناته، حيث وقع حينها فريسة لسؤال وجود الشر.
ولنُفصّل هذا الجواب في عدة نقاط:
١- نظرية التطور تختص بالنظم البيولوجية (علم الأحياء) فقط، ولكن دائرة مظاهر الإتقان الموجودة في الكون أوسع بكثير من المجال البيولوجي، وخارج اختصاص نظرية التطور التي لا تستطيع تفسيرها؛ فهي تقدم تفسيرًا في مجال علمي محدود، ولا تستغرق كل تفاصيل الوجود، وبعبارة أخرى هي تقدم جزءًا من تفسير لغز الحياة ولا تقدم جوابًا كاملًا عنه، فلا يمكنها تفسير نشأة الحياة فضلًا عن نشأة الكون.
ومع ذلك لا يلزم من الإيمان بها نفي دور الإله حتى في المجال البيولوجي، أليس من الممكن عقلًا أن تكون هذه النظرية – إن صحت- جزءًا من سنة الله تعالى في الخلق، وأنه استعمل أداة التطور لأجل تخليق الأجناس والأنواع؟
وفي التصور الإسلامي يوجد ارتباط واضح بين المجال السُنني وأفعال الله تعالى، فليس في العقل الإسلامي تعارض بين كون الله ينزل المطر، وأن هناك سنة كونية حدث من خلالها نزول المطر (دورة الماء في الطبيعة)؛ فالله تعالى هو الذي يقدر الأسباب ومسبباتها.
إذن لا إشكال في احتمال أن تكون أداة التطور جزءًا من سنة الله في خلقه، وإن كان خلق آدم – عليه السلام- أمرًا محسومًا بالنص في التصور الإسلامي، فنعلم يقينًا أن الله خلقه من تراب كما أخبرنا سبحانه وتعالى، ولكن الكيفية مجهولة ولم يخبرنا الله تعالى بتفاصيلها، يقول تعالى: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا) [الكهف: ٥١]
وبالتالي ما يقوله العلماء حول نشأة الإنسان مجرد افتراضات تصيب وتخطئ، ولا نقبل منها إلا الحقائق الثابتة التي تتفق مع كتاب الله عز وجل.
أما بقية الأحياء في المملكتين الحيوانية والنباتية باقية على أصل الجواز العقلي؛ أي أنه ليس هناك من جهة الشرع ما يمنع إمكان هذا التطور في هاتين المملكتين، هذا إن ثبت صحة النظرية وتحققت على أرض الواقع، لكنها لا زالت تتضمن خروقات كثيرة عجزت عن معالجتها كما سبق التوضيح.
٢- افتراض التعارض الزائف، حيث ادّعاء أن النظرية تؤدي إلى إنكار وجود الخالق قائم على افتراض أن العلم فسر لنا كل شيء، وبالتالي لا داعي لافتراض وجود الله، أي قائم على أنه لا وجود إلا لواحد من الخيارين (إما الإيمان بالعلم أو الإيمان بالله)!
وهذا مجرد افتراض عقلي باطل، فلا يوجد تعارض بين ما يفسره العلم وبين وجود الله؛ بل الإيمان بالله هو أصل لصحة تفسير العلم.
يذكر د. سلطان العميري في كتابه “النزعة العلموية” مثالًا طريفًا، فيقول: ” إن مثل الغلاة في العلم مثل رجل اختلف مع أصحابه في آلة معقدة كانت بين أيديهم هل لها صانع أم لا؟ فأخذ يدرسها سنوات طويلة وتعرف على أسرارها وكيفية عملها، ثم جاء إلى أصحابه وقال لهم: لقد وجدت الدليل القاطع على أن هذه الآلة لا صانع لها، فقد اكتشفت من خلال المختبر العلمي كل أسرارها وطريقة عملها فلا داعي لافتراض صانع لها!
إن صنيع هذا الرجل سيكون مذمومًا عند كل العقلاء، وسيقول له أصحابه: لا تعارض بين معرفة أسرار تلك الآلة وبين احتياجها إلى صانع، ونحن لم نقل باحتياجها إلى صانع لأجل أننا لم نعرف أسرارها؛ وإنما لأن الضرورة العقلية تقتضي ذلك، فسواء عرفنا أسرارها أم لم نعرفها، فموقفنا لن يتأثر”.
٣- يوجد في هذا الادعاء قفز حكمي؛ أي يتم الانتقال إلى نتيجة رغم عدم وجود ما يستلزمها أو يقتضيها، فنجد الملحدين يؤكدون أن النظرية تدل على نفي الخالق، فإذا حققنا النظر فيها لا نجد ما يدل على ادعائهم.
بل نجد صاحب النظرية نفسه يؤمن بنقيض ما ادَّعوا أن نظريته تدل عليه، فداروِن كان يسلّم في نظريته بأن الإله الخالق هو الذي وهب الحياة الأولى على الأرض، إلا أن مذاهب الفلسفة المادية والإلحادية التي سادت أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين قد احتضنت نظريته كجزء من معتقداتها المذهبية، واتخذتها ذريعة لإنكار وجود الله الخالق.
٤- وقوع خلط متعسف بين النظريات العلمية، وبين مدلولها المعرفي الذي يتم استنتاجه منها، فمن المُلاحظ أن ما يؤخذ من النظرية قدر زائد عليها خارج عن حقيقتها وعن طبيعتها التجريبية العلمية، ونجد الغلاة في العلم يجعلون ما استنبطوه من النظريات العلمية هو العلم ذاته، ويصفون مواقفهم الإيديولوجية بالصفات التي يصفون بها النظرية العلمية!
ومع سطوة العلم على العقل الأوروبي أخذ أصحاب الاتجاهات الفلسفية المتصارعة يستغلون النظريات العلمية ويدَّعون أن العلم يدل على مواقفهم ويدعم آراءهم، ويبطل آراء معارضيهم؛ فتحولت نظريات العلم إلى ساحة من الصراعات المذهبية والتأويلات المتعسفة، وأصبحت تلك الاستغلالات ظاهرة اجتماعية واسعة في تاريخ العلم والفلسفة المعاصرة.
وقد اتُخِذَت تلك المزاعم الفلسفية لنظرية دارون أساسًا لفكر سياسي عنصري واستعماري ساد العالم منذ القرن التاسع عشر، ومازال حتى الآن يدعو إلى ما يسمى بأن الحياة أساسها الصراع بين البشر والكائنات، وأن البقاء فيها للأصلح، واتخِذَ ذلك شعارًا لتأييد حملات الاستعمار التي زعمت سيادة الرجل الأبيض على كل الأجناس التي احتلوا أرضها في أفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية.
كذلك خلط الماركسيون بين تلك النظرية وبين موقفهم الإيديولوجي، وادَّعوا أنها تدل على أصلهم في الصراع بين الطبقات، واستغلوها لتطبيق رؤيتهم في التعامل مع الاختلاف بين أطياف المجتمع، وأصَروا أن ما هم عليه هو الذي يدل عليه العلم!
وتولدت عن هذه المعتقدات الفلسفية العديد من موجات العنصرية، مثل: النازية متمثلة في هتلر، والفاشيسيتية ويمثلها بوسوليني…إلخ.
كما ظهرت موجات ومخططات الحركة الصهيونية العنصرية؛ والتي تنادي بأن اليهود هم الرعاة الحقيقيين للعالم المكلفون من الله، وأن من سواهم ليسوا إلا كائنات كالبقر عليهم أن يعملوا ليأكلوا تحت إمرة الصهاينة!
مما سبق يتضح الفرق الكبير بين النظرية العلمية وبين ما يستنتج منها من مدلولات معرفية وفلسفية؛ فالعلم التجريبي لا يمدنا بفلسفة، ولا بأحكام شرعية، ولا بقيم أخلاقية، وارتباط هذه الأمور بالعلم التجريبي هو ارتباط استنتاجي يقوم به أشخاص ليسوا هم العلم نفسه، وليسوا مُبرئِين من الأهواء والرغبات، ولا معصومين من الوقوع في الخطأ؛ فالادعاء بأن ما استنتجوه من العلم هو العلم نفسه ادِعاء باطل بعيد عن العقل والمنطق.
وقبل الختام، ومن باب الإنصاف فإن هناك عدد من العلماء يؤمنون بنظرية التطور ولا ينكرون وجود الخالق عز وجل، ومن أمثلة العلماء مسيحيو الديانة الذين دافعوا علنًا عن نظريّة التطوّر وصرّحوا بقبولهم لحقائقها المركزيّة:
د.فرانسيس كولينز (Francis Collins)، المشرف على مشروع الجينوم البشري، ومدير المعهد الوطني للصحّة في أمريكا.
د.كينيث ميلر (Kenneth Miller)، بروفيسور علم البيولوجيا الجزيئيّة والخلويّة في جامعة براون الأمريكيّة، وأحد أشهر المدافعين عن النظريّة.
د.فرانشيسكو أيالا (Francisco J. Ayala)، بروفيسور علوم الأحياء والتطوّر في جامعة كاليفورنيا إرفاين، وقسّيس دومينيكاني سابق.
د.سايمون موري (Simon C. Morris)، عالم الأحياء القديمة والمستحثّات، ومكتشف أهمّ موقع أحفوريّات في العالم (Burgess Shale)، ود. روبرت بيري (R. J. Berry)، مختصّ في علم الوراثة وعالم طبيعة مشهور.
ومنهم د. دينيس ألكساندر ((Denis Alexander المدير الفخري لمعهد فاراداي للعلم والدين في كلية سانت إدموند بكمبريدج، وهو عالم أحياء جزيئية، وقام بتأليف كتاب عن العلم والدين، وقام بتأكيد أن التطور لا يتناقض مع وجود خالق للكون؛ بل يؤيده، فقال: “إن الله اختار بإرادته المطلقة أن ينفذ مشيئته والغاية التي وضعها للوجود عبر استحضار كل الأشياء الحية في سياق عملية تطورية طويلة، وإذا كان الله شاء لكل الأشياء الحية – بمن فيها نحن – أن توجد بهذه الطريقة، فمن نكون نحن لنعارض مشيئته؟
إن هذه الطبيعة المنظمة والمنضبطة للعملية التطورية تتفق مع وجود الخالق الذي أنشأ هذا الكون وما عليه لحكمة في نفسه، وذلك عبر المزايا الرئيسية لعملية التطور، وهي: اتجاه التاريخ التطوري وصولًا إلى زيادة التعقيد الذي توّج بالبشرية، ومن ثم الالتقاء الذي يثبت الانضباط عالي التنظيم لطبيعة العملية التطورية، وثالثًا التصميم والتركيب الرائع لبنية المادة الحية”.
ونحن نتفق معه في أن عمليات الخلق والتطور تتم بإرادة وقدرة الله تعالى، ولكن اعتراضنا أن يكون الإنسان مرّ بهذه المراحل من التطور؛ لأن الإنسان خلقه الله بطريقة خاصة تختلف عن أي مخلوق آخر، وليس نتيجة التطور.
يقول تعالى: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ *) [ص: ٧١- ٧٦].
فلو كان خلق الإنسان جاء بنتيجة التطور لما قال تعالى: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) وهذه خصوصية للإنسان أكرمه الله بها؛ أن خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه، وهذا لم يحدث بحق بقية الكائنات الحية، والله أعلم.
مما سبق يتبين أن نظرية التطور في الأصل ليس بها ما يدعو إلى إنكار الخالق، أو هدم القيم والأخلاق، أو محاربة الأديان، ودعمها وتقبّلها من قبل بعض العلماء المؤمنين والملاحدة على حدّ السّواء لا يؤكد إلا على حيادِيَتها في مسائل الإيمان والدّين.
إنما هي مجرد نظرية بيولوجية تحاول تقديم أفضل تفسير لتنوع الكائنات، وهي في ذات الوقت ليست حقيقة علمية ثابتة، وبتأمل فكرتها ووصفها نجد كلمات المصادفة والانتخاب الطبيعي متكررة دون الإشارة لوجود خالق وأنه مسبب هذه السلسلة، إلى جانب إشكاليات كثيرة تجعلنا كمسلمين لا نتقبل معظمها وإن اتفقنا مع جزء صغير منها.