الوصف
لقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة حول وجود تعارض بين الدين والعلم، ولعلَّ بعض الشباب في مجتمعاتنا قد أغراهم تقدم الغرب التقني مع ما يصاحبه من رفع لافتات التحرر من كل شيء، وعلى رأس ذلك الدين، وعزو كل ذلك التحضر والتقدم العلمي لعدم الإيمان بالله؛ بإظهار أن الدين سخفٌ وجهالة وحجر على العقول، وأن السبيل الوحيد للرقي هو العلم التجريبي فقط
مقالة
لقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة حول وجود تعارض بين الدين والعلم، ولعلَّ بعض الشباب في مجتمعاتنا قد أغراهم تقدم الغرب التقني مع ما يصاحبه من رفع لافتات التحرر من كل شيء، وعلى رأس ذلك الدين، وعزو كل ذلك التحضر والتقدم العلمي لعدم الإيمان بالله؛ بإظهار أن الدين سخفٌ وجهالة وحجر على العقول، وأن السبيل الوحيد للرقي هو العلم التجريبي فقط.
وترى في الطرف المقابل فئة تتخذ من مهاجمة العلم الطبيعي وتحقيره وسيلة للدفاع عن الدين، وفئة أخرى سلكت منهج التأويل طريقاً للتقريب بين العلم والدين، فأوَّلت الآيات والأحاديث لتوافق النظريات العلمية.
فأيهم على صواب؟
وما حقيقة هذه العلاقة الشائكة -كما تبدو-؟
فلنتتبَّع باختصار أهم المحطات التاريخية التي أثَّرت في هذه العلاقة، والتي أحصرها بما يتعلق بالعلم الطبيعي التجريبي دون غيره من العلوم، فمصطلح العلم أوسع من أن يضيَّق ويحصر في الظواهر الطبيعية والتجربة؛ فالعلم يشمل جميع المعارف باختلاف مصادرها من وحي ونقل، أو عقل أو حس وتجريب.
-
أصل الخلاف
إن التاريخ يذكر لنا أن علم الفلك قد شكَّل ساحة المعركة بين سلطة الكنيسة الكاثوليكية والعلماء في العصور الوسطى في أوروبا، حيث أقحم القس توما الإكويني نظرية بطليموس على طريقة أرسطو القائلة بمركزية الأرض في اللاهوت الكنسي، وقد لاقى ذلك قبولًا عند القساوسة، لدرجة أن اعتبروا ذلك جزءاً من الإيمان، وأن من يخالف هذا القول هو كافر مرتد، إلا أن ذلك لم يثنِ كوبرنيكوس الذي أفاض بحثاً في هذا الشأن؛ ليخلص إلى معارضة نظرية بطليموس بالقول بكروية الأرض ومركزية الشمس ودوران الأرض حولها، بيد أن كوبرنيكوس وهو من رجال الدين المعتبرين قد علم بخطورة ما توصل إليه من علم، فتردد كثيراً في إظهار فرضيته، فلم يتصادم مع الكنيسة إذ لم يصدر كتابه إلا وهو في مرض الموت، وذاع خبر نظريته بعد وفاته.
لقد كان كتاب كوبرنيكوس بمثابة الشرارة التي أشعلت فتيل الأزمة والصراع مع السلطة الكنسية، فلقد تبنى نظريته كثيرون، مما جعل الكنيسة تحرِّم كتابه وتنذر أتباعه بوجوب التوبة أو العقاب؛ ليتصدر المشهد حينذاك الإيطالي برونو فيعلن بقوة الصدام مع الكنيسة بصفته أشد المناصرين لنظرية كوبر و ألد أعداء أفكار أرسطو التي اكتست بالقداسة، ورَفْضُ برونو التراجعَ عن معتقده أجج الصراع مع الكنيسة وقادها لخطوة لا رجعة عنها، فتم إعدام برونو حرقاً، ولم تعلم الكنيسة وقتئذٍ أنها كانت تحرق ما بقي لها من سلطة، فلقد تم استغلال هذا الحدث في تأجيج العداوة مع الكنيسة من قبل أعدائها في الأوساط الأوروبية من غير الفلكيين أولاً كتيارات الإصلاح الديني و جماعة الإنسانيين، ثم من الفلكيين الذين ازدادوا بحثاً في إثبات نظرية أستاذهم.
-
معارضة وارتباك
ثم كان استخدام التلسكوب من قبل جاليليو في إبطال معتقد الكنيسة بمركزية الأرض صفعة قوية أربكت الكنيسة، فلا هي قادرة على معارضته علمياً ولا يمكنها التراجع عما أضفت عليه صفة القداسة، ولم يسلم جاليليو كذلك من الارتباك، فلقد أراد المقاربة مع الكنيسة بمحاولة تأويل بعض النصوص المقدسة لتدعم ما توصَّل إليه، سعياً منه لرأب الصدع، ومنهجية التأويل التي اتبعها جاليليو لم تؤتِ أكلها؛ بل زادت الطين بلة، إذ أظهرت ثغرات الكنيسة وهشاشة ما أدخلوه على الدين من تحريف، وينتهي الصراع مع جاليليو بالحكم عليه بالإقامة الجبرية، أما الكنيسة فأخذت تنأى بنفسها عن كل ما هو متعلق بالعلم مخافة أن تفقد ما تبقى لها من ماء وجه.
-
علماء أوروبا يزدادون يقيناً بالخالق
لا غرو أن سطوع نجم إسحاق نيوتن بعد ذلك في أواخر القرن السابع عشر كان له التأثير الأكبر والصفعة الأعتى للسلطة الكنسية، فلقد قدم تفسيراً للكون بصورة رياضية من خلال ما توصل إليه من قوانين الحركة و الجاذبية، مما أزاح لغة الكهنوت من أذهان الكثيرين لتحل مكانها لغة الرياضيات و الأرقام في تفسير الظواهر الكونية، ولا بد من الإشارة هنا أن نيوتن نفسه كان مؤمناً؛ بل شديد التدين رافضاً لمبدأ الثالوث مهاجماً لمن يسوغ الإلحاد بالعلم فلقد قال: (الإلحاد قمَّة اللامنطقية، عندما أنظر إلى المجموعة الشمسية، أرى الأرض في البعد الصحيح عن الشمس لتستقبل الكمية الصحيحة من الضوء و الدفء، هذا لم يحدث بالصدفة)[1]. ولقد كان يشير دوماً إلى أن هذا الكون محكم الصنع والإتقان وأنه بتفاصيله يدل على الإله الخالق فيقول (إن الحركة المنتظمة للكواكب تجعل من المنطقي الاعتقاد بوجود دائم للإله)[2] وهو ما عرف بعد ذلك بحجة صانع الساعة الذكي.
-
الفلاسفة يعتلون صهوة العلم ويحمِّلونه ما لا يحتمل
تلقَّف الفلاسفة أطروحات نيوتن بكل قوة وأسقطوها على كل ما لا يخضع للعلم، فاتخذوا من قوانينه في الحركة استغناءً عن الخالق، فنجد أنهم في أواخر القرن الثامن عشر قد أمعنوا في تعظيم المذهب التجريبي الحسي باعتبار أن لديه إجابات عن كل شيء، واضمحل دور الكنيسة في نفس الوقت، لكن من المهم معرفة أن رواد هذا التوجه أمثال فولتير وكانط وهيوم كانوا من الفلاسفة، ولا تكاد تجد بينهم من هو متخصص بالعلم.
إن المبالغة في تقديس العلم بتفسيراته ومنهجيته التجريبية بلغت أوجها في القرن التاسع عشر، واستشرس أصحاب التيارات المعادية للدين في اسقاطه باسم العلم، ووضع العلم بديلاً للإله، ليعرف هذا العصر بعصر عبادة العلم _وما عرف بعد ذلك بالعلموية_ مع ما صاحبه من تطور نتيجة الثورة الصناعية، فيعلن الإلحاد جهارة لأول مرة في أوروبا على يد التيار الماركسي، وازداد الهوس بالتجريب و اخضاع كل المفاهيم له و نبذ كل ما لا يخضع للحس و التجربة، وهنا تم تسييس العلم و إخراجه عن طبيعته التي تبحث في تفسير كيفية حدوث الأشياء الطبيعية إلى الإجابة على ما لا يخضع للقياس بأدوات العلم التجريبية كالغاية و الوجود و الخير و الشر لتدور الدائرة؛ فيتقمص العلمويون نفس الدور الذي لعبته الكنيسة في العصور الوسطى في أوروبا في تبني منهجية واحدة بإخضاع كل شيء لها، و إقصاء المخالفين و وسمهم بالجهل و الرجعية.
وهكذا تدرَّج إقصاء الدين عن الحياة والفكر حتى تم طرحه كعدوٍ للعلم، فإما أن تكون حياة رغيدة مضيئة بالعلم وتنبذ الدين، أو أن تكون عودة للدين ولظلمات القرون الوسطى وتسلط الكنيسة، لكن الوعود بحياة رغيدة تنتهي فيها الأمراض والأوبئة ويسيطر فيها الإنسان على الطبيعة لصالح الشعوب لم يتم الوفاء بها؛ فما وجد الناس إلا زيادة في الأوبئة والدمار الذي عم البلاد في حربين عالميتين ما زالت تعاني من ويلاتها الشعوب.
-
خيبة أمل وفراغٌ روحيٌّ
ويبدأ الانبهار بالعلم و تقديسه بالتقهقر قليلاً في القرن العشرين مع ظهور النظرية النسبية واكتشاف الذرة والالكترون، فما كان حتميَّاً في نظر الفلاسفة الذين بنوا مفاهيمهم على أطروحات نيوتن غدا الآن نسبيَّا، وتلاشت المطلقات الفلسفية مع ما طرحه آينشتاين ، فأصبح العلماء أكثر تواضعاً على حد وصف سترومبرغ، وانتشرت في تلك الفترة المذاهب الروحية و المثالية و الوجودية سعياً لإرواء الحاجة الروحيَّة للإنسان بعد ما عاناه من جفاف بسبب تقديس كل ما هو ماديّ محسوس، وبدا واضحاً أن العلم ما هو إلا مجهود بشري خاضع للصواب و الخطأ، فما يظهر اليوم صوابه قد يكتشف غدا خطؤه؛ بل أصبح جليَّاً للعيان أن العلم وسيلة قد توظف للشر، فلا بد من سلطة علويَّة و قيمة أعلى تضبطه و توجهه.
-
عن أي دين يتحدثون؟
لعلَّك تساءلت: وأين كان المسلمون من كل تلك الأحداث؟
لو سلَّطنا الضوء على الشرارة الأولى في الثورة العلمية وهي نظرية كوبرنيكوس لوجدنا أن علماء المسلمين كانوا قد كتبوا فيها من قبل، في الوقت الذي كان فيه مرصد مراغة الإسلامي يعجُّ بالعلماء المسلمين و يقصده كل من يصبو للفهم في هذا المجال من غير المسلمين خاصة من أوروبا؛ بل إن كثيراً من المؤرخين يؤكدون أن كوبرنيكوس ما كان إلا ناقلاً لعلم الفلك من مراغة، فيقول الفلكي الفرنسي ريجي مورلون:” ينبغي المرور عبر علم الفلك العربي كي نفهم كيف وصل كوبرنيكوس لنظريته، كل الأشكال الهندسية التي تشرح حركة الأجرام كتبها علماء باللغة العربية في القرن الرابع عشر؛ لقد اطلع كوبرنيكوس على نظرية الفلكيين المسلمين بمرصد مراغة كالشيرازي و الأزدي و الطوسي و ابن الشاطر.”[3]
لسنا هنا في صدد الحديث عن فضل العلماء المسلمين على العلم الحديث، إلا أن هذه الحقيقة التي لا ينكرها عاقل تردنا إلى مكانة العلم في الإسلام الذي كان أول ما تنزَّل من كتابه ” اقرأ “. ولا ريب أن العلم والعلماء كان لهم المكانة العالية في الخلافة الإسلامية، وذلك لعمق ارتباط المسلمين بدينهم الذي يحثهم على العلم ويعلمهم أن الزيادة في العلم زيادة في خشية الله (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) فاطر٢٨. ولقد شهد غير المسلمين للإسلام بذلك، يقول ستانلي لين بول: ” لم يحدث في تاريخ المدنية حركة أكثر روعة من ذلك الشغف بالعلم كما حدث في جميع أنحاء العالم الإسلامي، فكان كل مسلم من الخليفة للصانع يبدو كأنما اعتراه شوق إلى العلم، وكان ذلك خير ما قدمه الإسلام.”[4]
فالدين الحق لا يتعارض مع العلم أبداً، بل إنه يعطيه المعنى الذي يزيده منفعة للبشرية ويحد من طغيان الإنسان باستخدامه، فكم استلهم علماء المسلمين من المنهج القرآني دعوته للنظر وإعمال العقل؛ فبنوا على ذلك أسساً منهجية تطبيقية، وغلَّفوها بالأخلاق التي دعا لها دينهم، في حين أن معضلة الأخلاق في المجامع العلمية لم تجد حلاً يتفق عليه الجميع حتى الآن.
إن رافعي لواء التعارض يضعون الدين في كفة والعلم في كفة أخرى، وكأن الدين هو فقط تلك الكنيسة حرَّفت نصوصها المقدسة وألَّهت نظريات بشرية، إنه لمن السذاجة الحديث عن الأديان في زماننا وكأنها نسيج واحد، فكيف يستوي دين يأمر بالعزوف عن الدنيا ويدَّعي أن المرض مسٌّ من الشيطان، ودين اختلط فيه كلام البشر بما هو مقدس فزاد الناس شكاً وضياعاً، ودين حقٌّ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تالله لا يستوون.
-
حميَّة لا بُدَّ لها من علمٍ وفقه
لقد أخذت الحميَّة بعض المسلمين في زماننا للدفاع عن الدين باستغراقهم في البحث في الإعجاز العلمي في القرآن الكريم – وهو مبحث عظيم- فقاموا بتأويل بعض الآيات لتوافق نظريات علمية مطروحة، لكنهم غفلوا أن ما بين يديهم من نظريات ما هي إلا مجهود بشري من بعد نظر، فقد يعتريه الخطأ أو عدم الدقة؛ بل قد يثبت بطلانه تماماً في المستقبل، ولا شك أن القرآن معجز، ولكن لا بد من الحذر من المفاسد العظيمة المترتبة على تطبيق نتاج العلم التجريبي على نصوص الوحي.
لقد يسَّر الله لي أن أجتمعَ في أعمال بحثية علمية في الولايات المتحدة مع علماء من شتى المعتقدات الدينية، ورأيت عن قرب كيف يتلقف كل منهم النتائج المخبرية بما يتوافق مع معتقده، وكان مما يلفت نظري ندرة من قابلتهم من ملحدين باسم العلم؛ بل إن أكثرهم ممن لا يدين بدين يقر في نفسه بوجود خالق.
العلم أداة يسيِّرها صاحبها كيف يشاء؛ فحركة الأفلاك السماوية التي عمَّقت إيمان نيوتن هي نفسها التي أعلن بسببها لابلاس (أن العالم يمكنه الآن العيش دون الإله).[5]
إن العلم الصحيح يتناغم مع الدين الحق فيكون بذلك منفعة البشرية وخيرها في الدنيا والآخرة، وإن العالِم الربَّاني ليرتقي في إيمانه كلما ازداد علماً وعملاً بما يعلم.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً.